30 - 10 - 2025

انتباه | بين أكتوبر 73 وأكتوبر 23.. تاريخ لم يكتمل بعد

انتباه | بين أكتوبر 73 وأكتوبر 23.. تاريخ لم يكتمل بعد

في التاريخ العربي، تتكرّر التواريخ كأنها لا تنقضي، بل تعود إلينا في صورٍ جديدة؛ تُبدِّل الميدان ولا تُغيّر السؤال. السادس من أكتوبر عام 1973 كان موعدًا مع عبور جسور قناة السويس، عبورٍ من الهزيمة إلى التحدي، لاستعادة الأرض واسترداد الكرامة، وإزالة آثار العدوان التي ثقلت على الوجدان العربي منذ هزيمة يونيو. كان ذلك العبور إعلانًا بأن الأمة ـ مهما طال خريفها ـ ما زالت قادرة على أن تُقاتل دفاعًا عن حقها ومصيرها.

العبور الأول كان فعل أمةٍ ما زالت تؤمن بقدرة الدولة على أن تكون التعبير الأعلى عن إرادتها، فكانت الجيوش هي الجسر، والعلم هو الراية، والهدف هو الأرض التي سُلبت بالقوة ويجب أن تُسترد بالقوة.

وبعد نصف قرنٍ بالتمام، جاء السابع من أكتوبر عام 2023، فإذا بالتاريخ يُعيد نفسه ولكن على نحوٍ أكثر قسوةً وأعمق دلالة. لم يكن العبور هذه المرة على مياه قناة، بل على حدود النار والأسلاك والجدران، عبور من الأرض المحاصرة إلى الأرض المحتلة، من غزة المكبّلة إلى فلسطين المغتصبة، كان عبورًا من الخوف إلى الإقدام، ومن ذل الحصار إلى كرامة المقاومة.

 بدا لأول وهلة قفزةً من المستحيل إلى الممكن، لكنّ جوهره كان أعمق من ذلك: كان عبورًا في الوعي العربي نفسه، من زمن الدولة التي تمتلك القرار والسلاح إلى زمن الإنسان العربي المجرد من كل سندٍ إلا إيمانه بقضيته.

وبين العبورين نصف قرنٍ كامل، هو في حقيقته عمر التحوّل في التجربة العربية كلها: من حلم الوحدة إلى واقع الانقسام، ومن صوت الجيوش إلى نداء الشعوب، ومن معارك الخرائط إلى معارك الذاكرة. ومع ذلك، فإن التواريخ ـ حين تتكرر ـ لا تفعل ذلك عبثًا، بل لتقول إن الأمة، مهما انكسرت، ما زالت تحتفظ في أعماقها بروح العبور الأول، وإنها كلما أُعيد امتحانها، وجدت في نفسها ما يُدهش العالم مرة أخرى.

في حرب أكتوبر 1973 قاتلت جيوش نظامية تحت رايات دول، تحكمها قرارات موازين السلاح والسياسة. كانت المعركة، في جوهرها، تعبيرًا عن إرادة الدولة القومية في ذروة حضورها. أما في طوفان الأقصى 2023، فقد تغيّر المشهد تمامًا: لم تعد هناك جيوشٌ تتحرك بأوامر القادة، بل مقاومةٌ تتحرك بإلهام الفكرة، ومن تحت الحصار لا من فوق المنصات. الفاعل هنا لم يكن النظام، بل الإنسان العربي حين تُسلب منه كل أدوات الدولة فلا يبقى له إلا وعيه.

وهكذا تحوّل مركز الفعل من السلطة إلى الشعب، ومن القرار السياسي إلى الإيمان الوجودي بأن البقاء مقاومة.

في 1973 كان الهدف قابلًا للقياس في خرائط ومواقع، أما في 2023، فقد بدا الهدف أبعد من الجغرافيا؛ فالمعركة لم تكن لتغيير خطوطٍ على الخريطة، بل لتثبيت حقٍّ في الوجود ذاته، وردّ الاعتبار لفكرة فلسطين التي أُريد طمسها.

طوفان الأقصى لم يُشعل الحرب لأجل حدودٍ، بل من أجل الهوية، وألا تموت القضية أو تباع وتشترى في صفقات العار، وهكذا انتقلت القضية من “تحرير الأرض” إلى “تحرير المعنى”، من ميدان السياسة إلى ميدان القضية.

في 1973 كانت الحرب محكومة بمنطق السلاح، وجيوشٌ مدرّعة وخططٌ عسكرية دقيقة، مدعومة بتوازنات الحرب الباردة. أما في 2023 فقد أصبحت الإرادة نفسها سلاحًا، ووسائل التواصل الميداني والإعلامي ساحاتٍ جديدة للمعركة. كانت الطائرات والصواريخ في الحرب الأولى عنوان القوة، أما في الثانية فقد أصبحت الكاميرا والوعي الجمعي عنوان التحدي. فبينما قاتلت الجيوش في 1973 لإثبات القدرة، قاتلت المقاومة في 2023 لإثبات الوجود.

كان العالم في 1973 منقسمًا بين معسكرين متقابلين، يمكن للسياسة أن تناور بينهما، وكان صوت العرب، بدعمٍ سوفييتي أو بتأثيرٍ نفطي، قادرًا على أن يُسمع في الساحة الدولية. 

أما في 2023، فقد أصبح العالم أحادي القطب لكنه مفككٌ من الداخل، فاقدًا لميزان الأخلاق قبل ميزان القوة. ولأول مرةٍ تُعرض مأساةٌ فلسطينية بهذا الوضوح أمام العالم كله، لا في تقارير المراسلين بل في بثٍّ حيٍّ للضمير الإنساني. وبهذا المعنى، فإن طوفان الأقصى لم يغيّر الميدان العسكري فقط، بل عرّى النظام الدولي من ادعاءاته.

حرب أكتوبر انتهت بنصرٍ عسكري تحوّل إلى تسويةٍ سياسية، ثم إلى سلامٍ ناقصٍ غيّر وجه المنطقة لكنه لم يشفِ جرحها. 

أما طوفان الأقصى فقد بدأ بمأساةٍ إنسانية، لكنه تحوّل إلى يقظةٍ أخلاقية عربية وعالمية، كشفت هشاشة الكذب الغربي ومحدودية القوة الإسرائيلية أمام صمود البشر.

 1973 أعادت الثقة إلى الجيوش، و2023 أعادت الكرامة إلى الإنسان. الأولى كانت نقطة ذروةٍ في المشروع القومي، والثانية ومضة بعثٍ في وعي الأمة بعد مواتها.

في 6 أكتوبر 1973، كان العالم العربي يعيش ذروة ثقته بنفسه. كانت الحرب، في معناها الأعمق، محاولة لاستعادة التوازن بين الأمة وتاريخها. كان عبد الناصر قد رحل قبلها بثلاثة أعوام، لكن صدى مشروعه القومي كان لا يزال حيًا في الجيوش التي خاضت الحرب وفي الشارع الذي صدّق أن العروبة يمكن أن تُقاتل حين تتحد.

أما في 7 أكتوبر 2023، فقد بدت الأمة في حالٍ من التشرذم لم تعرفها من قبل، أنظمة متباعدة، وشعوبٌ تائهة بين الفقر والقهر واللامبالاة. ومع ذلك، فإن الطوفان جاء ليقول إن الروح التي عبَرت القناة لم تمت، وإنها يمكن أن تعود من تحت الركام حين يظن الجميع أن الصفحة طُويت.

في حرب 1973 كانت السياسة تسبق الميدان، وكان الهدف أن يفتح الانتصار العسكري طريقا إلى التسوية السياسية. وهكذا تحوّل النصر إلى اتفاق سلام، ثم إلى واقعٍ عربي جديد عنوانه “الواقعية” و“المصالح”. أما في 2023، فقد انقلب الترتيب: جاءت المعركة لا لتفتح باب المفاوضة، بل لتغلق باب الوهم.

 لم يكن وراءها نظام يبحث عن مكسبٍ سياسي، بل شعب يبحث عن معنى وجوده ذاته. هنا تبرز الدلالة الكبرى: أن الأمة حين تعجز أنظمتها عن صناعة التاريخ، تتولّى الشعوب بنفسها كتابة فصوله.

الفرق بين الحربين يكشف تحول مكان القضية الفلسطينية في الضمير العربي. في السبعينيات كانت "قضية مركزية" ترفعها الأنظمة كشعار وحدوي جامع، أما في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين فقد أُريد لها أن تُختزل إلى ملف أمني أو إنساني. غير أن طوفان الأقصى أعادها إلى قلب الوعي العربي والعالمي معًا، لا بوصفها قضية أرض، بل بوصفها امتحانًا إنسانيًا لكل ما تبقّى من الضمير في هذا العالم.

المشهد الدولي نفسه حمل دلالاتٍ لا يمكن إغفالها. فبينما كانت حرب 1973 جزءًا من لعبة الأمم بين واشنطن وموسكو، جاءت حرب 2023 في عالمٍ بلا توازن ولا بدائل، عالمٍ تتفرّد فيه الولايات المتحدة بالقوة وتفقد معها المصداقية. وهنا كانت المفارقة: ففي اللحظة التي بدا فيها العرب أضعف ما يكونون، كان وعيهم الجمعي أقدر على فضح العالم بأسره. لقد سقطت الأقنعة، وتهاوت شعارات “الحرية” و“حقوق الإنسان” حين وُضعت على محك الدم الفلسطيني. وهكذا تحوّل طوفان الأقصى إلى مرآة كاشفة للنظام الدولي كما هو، لا كما يدّعي أن يكون.

في التحليل الأخير، فإن ما بين أكتوبرين يختصر مسار النصف قرن العربي: من الحلم إلى التسوية، ومن التسوية إلى الانكشاف. فالأول أنهى مرحلة النهوض القومي، والثاني دشّن مرحلة الوعي الشعبي الجديد. وإذا كانت حرب 1973 قد غيّرت وجه السياسة، فإن حرب 2023 بدأت تُغيّر وجه الوجدان العربي نفسه، تعيد تعريف البطولة، وتعيد ترتيب معنى الكرامة.

بين السادس والسابع من أكتوبر، نصف قرنٌ من التاريخ لا يُقاس بالسنوات، بل بالتحولات التي عبرت جسد الأمة وروحها. في المرة الأولى كان العبور على خرائط الأرض، وفي المرة الثانية كان العبور في خرائط الوعي. هناك تحرّكت الدبابات فوق الرمال، وهنا تحرّك الإيمان في جوف الأنفاق. هناك كانت الجيوش تعبر قناة السويس إلى الضفة الشرقية، وهنا كان الفلسطيني يعبر جدار الخوف إلى الضفة الأخرى من التاريخ.

وإذا كان السادس من أكتوبر قد أضاء لحظة استعادة الكرامة بعد هزيمة، فإن السابع من أكتوبر أعاد تعريف الكرامة نفسها في زمنٍ كادت فيه أن تُمحى من القاموس. لقد أثبت أن الشعوب لا تموت بالحصار، بل بالصمت، وأن الأمم حين تُسلب منها الدولة تخلق من وعيها دولة أخرى، دولة من الإرادة، ومن دمٍ يسيل ليكتب معنى البقاء.

كانت حرب 1973 إعلانًا بأن العرب قادرون على القتال، أما طوفان الأقصى فكان إعلانًا بأنهم قادرون على الحياة رغم كل أسباب الفناء. الأولى قالت إن الجيوش يمكن أن تنتصر، والثانية قالت إن الإنسان العربي، بلا جيشٍ ولا غطاء، يمكن أن يواجه العالم كله بثباتٍ لا يُفسَّر إلا بأنه يقينٌ يتجاوز حدود السياسة.

لقد أراد العالم أن يجعل من فلسطين قضيةً منتهية، فإذا بها تُعيد تعريف كل القضايا. وأراد أن يحصرها في حدود غزة الصغيرة، فإذا بها تكشف ضيق العالم واتساع الإنسان، في تلك البقعة المحاصَرة التي أرادوا خنقها، وُلدت لغة جديدة للحرية، لا تُترجم في بياناتٍ ولا تُقاس بعدد الصواريخ، بل تُقاس بقدرة فكرةٍ على أن تهزّ ضمير العالم من جديد.

حين نُمسك بخيط التاريخ بين 1973 و2023، ندرك أن العبور لم يكن من الضفة الغربية إلى الشرقية، ولا من غزة إلى المستوطنات، بل من زمنٍ إلى زمن، عبورٌ من الدولة إلى الإنسان، من الجغرافيا إلى الوعي، من السلاح إلى الفكرة.

لقد تغيّر شكل الحرب، لكن السؤال لم يتغيّر: 

هل تستطيع الأمة أن تعبر إلى مستقبلها وهي لم تحسم بعد معركتها مع نفسها؟

ذلك هو سؤال أكتوبرين: في الأول عبرنا القناة إلى أرضٍ محتلة، وفي الثاني عبرنا كل محاولات التصفية، الأول كان بداية التسويات، والثاني قد يكون ـ إذا استوعبناه ـ بداية النهضات. أكرر إذا استوعبناه.

التاريخ لا يعرف النهاية، ولا يُعيد نفسه ليكرّر الحكاية، بل ليُكملها. 

وربما كانت رسالة القدر لنا أن نُدرك أن عبور الأمة لم يبدأ بعد، والتاريخ لم يكتمل بعد، ولن يكتمل إلا حين تعي أمة العرب أن العبور الحقيقي لا يكون من ضفة إلى ضفة، بل من غفلةٍ إلى يقظة. تلك هي أولى منازل العبور، كما وصفها ابن القيم: "انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين". إنها لحظة الانتباه التي تزلزل السكون، وتفتح بابًا للفهم، وتعيد تعريف الطريق.
---------------------------
بقلم: محمد حماد



مقالات اخرى للكاتب

انتباه | بين أكتوبر 73 وأكتوبر 23.. تاريخ لم يكتمل بعد